ثم ذكر بعد ذلك الدلائل النقلية التي تدل -كما زعم- على أن الله تعالى ليس مستوياً على عرشه، وليس فوق المخلوقات. يقول: "وأما الدلائل السمعية فكثيرة، أولها: قوله تعالى: ((
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ))[الإخلاص:1]، فوصف نفسه بكونه أحداً، والأحد مبالغة في كونه واحداً، والذي يمتلئ منه العرش، ويفضل عن العرش، يكون مركباً من أجزاء كثيرة جداً فوق أجزاء العرش، وذلك ينافي كونه أحداً".
لقد رد عليهم شيخ الإسلام
ابن تيمية رحمه الله، وضرب بهذا الكلام مثالاً لتناقضهم وبعدهم عن فهم كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فإن من يرد قوله تعالى: ((
الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى))[طه:5] بقوله تعالى: ((
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ))[الإخلاص:1]، لا يفقه في كتاب الله تعالى ولا في سنة رسوله شيئاً، وإنما هي تمحلات عقلية باطلة. وكلام
الرازي هذا لا يقوله عاقل، ويلزم منه ألا يكون الله سبحانه وتعالى شيئاً، أو يكون -كما هو في مذهبهم- الجوهر الفرد، والجزء الذي لا يتجزأ أبداً، كما يقولون: إن الأشياء تنتهي إلى جزء لا يتجزأ أبداً، فيكون هو الرب! تعالى الله عن ذلك! لكن إذا افترضنا أنه أكبر من ذلك -وهو سبحانه وتعالى العلي الكبير وهو أكبر من كل شيء- بطل كلامهم هذا.
والذي دفعهم إلى هذا الاستدلال هو قياسهم للخالق عز وجل الذي ليس كمثله شيء بالمخلوقات، وهو استدلال لا يقره العقل أبداً.
ثم يذكر
الرازي: دليلاً آخر، فيقول: "ثانيها: أنه تعالى قال: ((
وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ))[الحاقة:17] فلو كان إله العالم في العرش؛ لكان حامل العرش حاملاً للإله".
الله تعالى يقول: ((
وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ ))[الحاقة:17] ولم يقل: ويحمل ربك.. تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً!! فالعرش هو المحمول، أما الله تعالى فإنه مستغن عن العرش وما دونه، وهو الذي يمسك السماوات والأرض أن تزولا، وهو الذي تقوم المخلوقات وتثبت بحكمته وبصنعته المتقنة سبحانه وتعالى، وليس هو المحتاج إليها.
فمن يرد قوله تعالى:
الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى أو قوله تعالى: ((
ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ))[الأعراف:54]، بقوله: ((
وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ))[الحاقة:17]، فلا شك أنه يضرب كلام الله بعضه ببعض بلا حجة ولا برهان من عقل سليم.
ثم يأتي بدليل عجيب فيقول: "وثالثها: أنه تعالى قال: ((
وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ))[محمد:38]، فحكم بكونه غنياً على الإطلاق، وذلك يوجب كونه تعالى غنياً عن المكان والجهة".
ويقال له: من الذي أثبت له المكان والجهة؟ نحن إنما قلنا: إنه استوى، فهو ينفي شيئاً لم يقله من أثبت الاستواء، والآية ليس فيها إثبات للمكان أو الجهة، فهو إنما أتى من قبل فهمه الخاطئ القاصر للآية. ثم إن كونه تعالى غنياً أيجعلنا ذلك نرد استواءه على العرش، وأنه عالٍ على المخلوقات، وأنه العلي الكبير، فنضرب صفة بصفة وكلاماً لله تعالى بكلام، ودليلاً بدليل ؟ هذا هو التناقض والهوى.
يقول: "ورابعها: أن فرعون لما طلب حقيقة الإله تعالى من موسى عليه السلام، لم يزد موسى عليه السلام على ذكر صفة الخلاقية ثلاث مرات، فإنه لما قال: ((وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ))[الشعراء:23] ففي المرة الأولى قال: ((رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ))[الشعراء:24] وفي الثانية قال: (( رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ))[الشعراء:26] وفي المرة الثالثة قال: ((رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ))[الشعراء:28] وكل ذلك إشارة إلى الخلاقية".
ومعنى ذلك: أن موسى عليه السلام لما سأله فرعون: وَمَا رَبُّ الْعَالَمِين؟ كأنه حاد عن الجواب! وكأن القوم يصححون حجة فرعون على موسى عليه السلام؛ قال يقولون: لأن (ما) يسأل بها عن الماهية، وهي حقيقة الشيء التي يختص بها عن غيره، فقد سأل فرعون عن ذلك، فعدل موسى عن الجواب ولم يجبه عن سؤال: ما هو رب العالمين؟ وإنما قال: ((رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ))[الشعراء:24].
وهذا الكلام غير صحيح؛ لأن قول فرعون: وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ كان منه على سبيل الإنكار، بدليل قوله تعالى عنه: ((مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي))[القصص:38]، فقوله: وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ يعني: ليس هناك إله مطلقاً، ولم يكن على سبيل الاستفهام عن الماهية كما يزعمون، فالخطأ أنهم لم يفهموا كلام الله تعالى ولم يفهموا لغة العرب، فإن اصطلاح وضعه المناطقة في القرن الثالث والرابع وما بعده، أما موسى عليه السلام وفرعون فلم يكونوا يعرفون المنطق ولا الماهية، وكل العالم متفقون على أن الله سبحانه وتعالى لا تعلم ذاته وإنما تعلم صفاته، حتى المنكرون الجاحدون من الجهمية والفلاسفة يجزمون على أن ذات الله تعالى لا تعلم، إذاً ليس المقام مقام سؤال وجواب عنها.
فقول موسى عليه السلام: ((رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ))[الشعراء:26] .. ((رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا))[الشعراء:28] هو تعريف لله تعالى بصفته، وكأنه يقول: كيف تنكره وتستبعده وتجحده وهو الذي خلقك وخلق أولئك المخاطبين الذين معك؟ ((أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ))[الطور:35-36]، فالذي خلقكم هو الذي أدعو إليه. فكان كلام فرعون للإنكار، وكان جواب موسى عليه السلام للإلزام والإقرار والإفحام، ولا شك أن الله سبحانه وتعالى أعطى الرسل جميعاً من قوة الحجة والإلزام ما يفحمون ويلزمون به كل من ناظرهم، كما ناظر إبراهيم الخليل عليه السلام ذلك الملك، فغلبه وأفحمه وقطع حجته، قال تعالى: ((فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ))[البقرة:258]، وكذلك محمد صلى الله عليه وسلم وصالح وشعيب وهود، وكل الرسل أعطاهم الله تبارك وتعالى قوة الحجة والبرهان فلا يُغلبون أبداً.
وقد سأل موسى عليه السلام ذلك أول ما أوحى الله تبارك وتعالى إليه، فقد دعا الله عز وجل أن يشرح له صدره وييسر له أمره، وقال: ((وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي))[طه:27-28] أي: لتكون كلمتي قوية وحجتي ساطعة ونيرة، وكان له ذلك بلا ريب، ولذلك لجأ فرعون إلى الاستعانة بالسحرة وقال: لعل في ذلك مخرجاً، لأنه رأى أمامه آيات بينات لا يملك معها إلا أن يستعمل السحر.
يقول: "وأما فرعون لعنه الله فإنه قال: ((يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى))[غافر:36-37]، فطلب الإله في السماء، فعلمنا أن وصف الإله بالخلاقية وعدم وصفه بالمكان والجهة هو دين موسى وسائر جميع الأنبياء، وأن وصفه تعالى بكونه في السماء دين فرعون وإخوانه من الكفرة".
هذا هو استدلال هؤلاء الأئمة الكبار الذين لهم مؤلفات في علوم كبيرة!! لكن هذه هي عاقبة العقول التي لم تهتد بنور الله ولم تتبع الوحي الذي أنزله.
يقول: يتبين لنا من هذه المناظرة أن وصف الله تعالى بكونه الخالق فقط دون إثبات العلو والاستواء هو دين الرسل، وأن إثبات أنه تعالى فوق العالم عالٍ على المخلوقات هو دين فرعون ودين الكفرة! وما هو الدليل؟ قال: لأن فرعون قال: ((يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى))[غافر:36-37]، فما دام فرعون يريد أن يبني صرحاً فيطلع إلى ما فوق السماء، فهو يعتقد أن الله تعالى في السماء، فمن يعتقد ذلك فهو على دين فرعون وإخوانه الكفرة.
مع أن فرعون قال بعد ذلك: ((وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا))[غافر:37]، فدل ذلك على أن موسى قال له: إن الله في السماء، فقال: يا هامان ابن لي صرحاً، ثم قال: لا تفعل؛ لأنه كذاب، ففرعون هو الذي ينكر العلو، وإنكاره للعلو إنما هو بلسانه وإلا فإنه في الحقيقة يؤمن بالله: ((وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ))[النمل:14]. لقد قال موسى عليه السلام لفرعون: إن الله سبحانه وتعالى هو: ((رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ))[الشعراء:26]، وقد يكون صرح له بالعلو أو لم يصرح، فإن هذا لا يقتضيه؛ لأن كل من يدعو إلى الله فهو يدعو إلى الذي تعلمه الفطر والقلوب والعقول السليمة، وهو الله سبحانه وتعالى الذي هو فوق العالم، العالي على جميع المخلوقات، وغير ذلك لا يسمى الله أبداً.
فأراد فرعون أن يرد عليه وأن يبطله، فقال: يا هامان! اجمع الناس واؤمرهم أن يبنوا صرحاً؛ حتى نصل إلى السماء ونتأكد من وجود الإله الذي يزعم موسى.
ثم قال: ((وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا))[غافر:37] فلا حاجة للبناء..
إذاً: يتضح لنا أن دين موسى عليه السلام ودين جميع الرسل هو إثبات صفات الله سبحانه وتعالى، ومن ينفي علو الله تعالى وينفي استواءه وأنه في السماء، فهو على دين فرعون.
يقول: "وخامسها -أي الأدلة النقلية- أنه تعالى قال في هذه الآية: (( ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ))[الأعراف:54]، وكلمة (ثم) للتراخي، وهذا يدل على أنه تعالى إنما استوى على العرش بعد تخليق السماوات والأرض، فإن كان المراد من الاستواء الاستقرار؛ لزم أن يقال: إنه ما كان مستقراً على العرش بل كان معوجَّاً مضطرباً، وذلك يوجب وصفه بصفات سائر الأجسام من الاضطراب والحركة والسكون".
وهذا كلام باطل؛ لأننا لا نثبت لله تعالى الحركة؛ بل نثبت له -مثلاً- النزول، فإن قالوا: النزول يلزم منه الحركة، قلنا: هذه اللوازم باطلة، ونحن إنما نصفه كما أخبر وكما قال، ومن ألزمنا بشيء فإنما يُلزم بذلك المتكلم وهو الله سبحانه وتعالى، كما أجاب محمود الغزنوي فاتح الهند على ابن فورك عندما سأله: أين الله؟ قال: في السماء، فقال: إنه يلزمك من ذلك أن يكون الله في جهة، وأن يكون محصوراً... إلخ. فقال له: أنا أقول عن الله كما أخبر عن نفسه، فإن لزم من هذا الكلام شيء فإنما يلزم القائل، فسكت ابن فورك، ولم يحر جواباً وكذلك فإنه إذا سأل الله تعالى العبد يوم القيامة: ماذا تعتقد فيَّ؟ فقال: أعتقد فيك ما قلت، فإن هذا أقرب للنجاة ممن يقول: يا رب، إن ما قلت يلزم منه كذا وكذا، وأنا أرده وأعتقد ما قاله فلان وفلان!